الدكتور رائد أبو ربيع: السجون ليست من أولويات الدول خلال النزاعات المسلحة

العدد 63 / قضايا إنسانية

الدكتور رائد أبو ربيع: السجون ليست من أولويات الدول خلال النزاعات المسلحة

أحد السجون الصومالية في 2016. تصوير: بدرام يازدي/ اللجنة الدولية.

 تظهر المشكلات الصحية في أي مجتمع في صورة مُرَكزة داخل السجون؛ لذا ليس من الغريب أنه في هذه الأماكن تتفشى أمراض بعينها في وقت الحروب وفي أوقات السلم. ويشكل الاكتظاظ أحد عوامل الخطر الرئيسة. تناقش «الإنساني» في هذا الحوار مع الخبير الصحي البارز في أوضاع السجون الدكتور رائد أبو ربيع أبعاد هذه المشكلة وتحدياتها
 للدكتور رائد أبو ربيع باع طويل في دراسة ومتابعة الأوضاع الصحية داخل السجون، وهو يُعد أحد المراجع عن صحة السجون في العالم. يعمل أبو ربيع في اللجنة الدولية للصليب الأحمر مسؤولًا عن وحدة الصحة في السجون. وجزء أصيل من عمله يكمن في زيارة الدول التي تعمل فيها اللجنة الدولية، والانخراط مع السلطات المعنية هناك في حوار من أجل تحسين الخدمات والظروف الصحية في السجون.
 السؤال العام هنا عن العلاقة بين النزاعات المسلحة وأشكال العنف الأخرى، وتفشي أنواع معينة من الأمراض. ما طبيعة هذه العلاقة؟ هل يعني وجود النزاع أن هناك مرضًا ما ينتج عنه؟ وإذا ضيقنا زاوية التناول لتشمل السجون فقط، كيف يمكن أن تكون السجون ساحة لتفشي أنواع مختلفة من الأمراض؟
لقد تكلمت عن نقطتين. النقطة الأولى عن النزاع والمرض، هناك عدة أمور ينبغي الإشارة إليها. يجب ألا ننسى أنه عندما يكون هناك نزاع مسلح، فإن هناك بعض الآثار المترتبة عليه والتي تؤثر في الخدمات الطبية بالبلد. كيف؟ أولًا: الكوادر الطبية تهرب أو تُقتل. ثانيًا: المستشفيات لا توجد بها الإمكانيات والمعدات الصحية والأدوية. ثالثًا: لا يستطيع المريض حتى الوصول إلى المستشفى أو العيادة ليحصل على الرعاية الصحية [بسبب ظروف الحرب]. للنزاع والمرض علاقة متصلة ببعضهما البعض. ولهذا السبب يوجد قسم الصحة باللجنة الدولية.
عندما يحدث نزاع مسلح، ننظر إلى الحكومة، أول شيء لا تستطيع وزارة الصحة والخدمات الطبية أن تقوم بواجبها، إما أولًا لقتل وإصابة الأطباء أو هروبهم. أو ثانيًا لأنه لا يوجد أطباء ولا أدوية بالمستشفيات أو العيادات أو المستوصفات التي تُدمَّر أحيانًا، وثالثًا عدم مقدرة المريض على الوصول من منطقة الحدث إلى العيادات أو المستشفيات.
كيف يمكن أن تؤدي ظروف معينة في السجون كالازدحام المبالغ فيه إلى تفشي أنواع معينة من الأمراض؟
عندما نتحدث عن السجون في الأوقات العادية أو في حالات الحروب، فهناك عدة أشياء يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. منها أنه عندما تزيد نسبة الاكتظاظ داخل نطاق السجن، فإننا نواجه تحديين، تحديًا خاصًّا بالنظام الصحي بصورة عامة، وتحديًا خاصًّا بالسجناء. عندما يكون السجن مُعدًّا لأربعة آلاف سجين فقط، وتضع فيه ثمانية آلاف، فهذا يعني اختلافًا في نوعية الخدمات الطبية المقدمة. لا تنس كذلك أن هناك تحديًا يتمثل في الكادر الطبي نفسه. فهذا الكادر الذي يعمل في السجون، للأسف الشديد هو عادة كادر ليس بالضرورة الأكثر تأهيلًا أو الأقدر على حل المشكلة.
أضف إلى ذلك أن الكادر الطبي الذي يذهب إلى السجن لا يحصل على أي تدريب متخصص. أنا أعرف حالات عن أطباء في السجون لم يتحصلوا على أي تدريب منذ 15 عامًا، ومن ثمَّ فإن كفاءاتهم متدنية للغاية، وهم في الغالب غير قادرين على حل مشاكل الوضع الصحي بالسجون.

الدكتور رائد أبو ربيع

بمعنى؟ كيف يؤثر ذلك على السجناء؟  
زيادة الاكتظاظ تجعل الطبيب المخصص للكشف على 25 مريضًا، يتابع حالة 60 مريضًا، وبالتالي عدد الأفراد وعدد الأشخاص الذين يتابعهم الطبيب كبير جدًّا، ومن ثمَّ لا توجد متابعة حثيثة للمرضى. وعندما يكون هناك اكتظاظ تنتقل الأمراض بسهولة لأن مستوى الخدمات الطبية والنظافة انخفض.
إذن فالاكتظاظ يمثل عقبة أساسية بالنسبة لصحة السجناء، وكذلك للطاقم الطبي الموجود؟
أعطيك أمثلة، يجب أن تحسب كم مرة أسبوعيًّا يستطيع أن يستحم فيها السجين. كيف يتعامل السجين مع النظافة، وهكذا. للاكتظاظ تأثيرات سيئة جدًّا على السجن بصورة عامة، وعلى السجناء، وأيضًا على الكادر الطبي داخل نطاق السجن. ولاحظ كذلك أن أي مرض بسيط يمكن أن ينتقل بسهولة بسبب الازدحام. نقطة أساسية يجب ذكرها، لا تستطيع أن تفرق بين ما هو داخل السجن وما هو خارجه، أي أن الأمراض لا تُمنع بحائط، الأمراض تنتقل لأن المريض الموجود داخل السجن هو جزء من المجتمع، وبالتالي الحائط لا يمنع انتقال الأمراض من وإلى السجن.
المرض في النهاية مشكلة مجتمعية أكثر من كونها مشكلة للسجين فقط. المريض السجين مثلًا يتلقى الزيارة من أسرته. يعني إذا انتشر المرض وحالته سيئة داخل نطاق السجن، من الذي يصاب؟ المرض داخل نطاق السجن لا يمس فقط السجين، وإنما يمس أيضًا حراس السجن والعاملين فيه. وتذكر أن كل شخص يعمل داخل نطاق السجن له أسرة في الخارج، يرجع إليها، وبالتالي ينقل المرض. وهذا معناه أن ما يحدث في السجن ينتقل إلى المجتمع من الناحية المرضية.
ما الأمراض التي تنتقل عادة في السجن بطريقة سريعة جدًّا؟
هناك مرض السل أو الدرن، ومرض الجرب، وأمراض جلدية أخرى تنتقل بسبب غياب النظافة، وعدم الغسيل. هناك أيضًا أمراض جلدية تنتقل مثل الفطر. أتذكر أنه عندما كان هناك مرض الدرن في الاتحاد السوفيتي كمثال، كان انتقال المرض داخل نطاق السجن أكثر بـ 80 مرة من نقله خارج السجن. والسبب أن السجن عادة لا تجري تهويته مثل خارج السجن. أيضًا السجين يُغطي نوافذ كل الغرف ليحجب الضوء، لأنه يريد أن ينام وقت ما يريد، لا يوجد عمل، وبالتالي كل الغرف مظلمة ورطبة، وبالتالي الأمراض مثل الدرن أو حتى أمراض الجرب تنتقل بسهولة جدًّا لعدم دخول الشمس بكمية كافية داخل نطاق السجن.
ربطًا مع مشكلة اكتظاظ السجون، هل هناك تصنيفات معينة للأمراض داخل السجون، بمعنى هل هناك أنواع معينة من الأمراض لها علاقة بنقص المياه فقط؟ أمراض أخرى لها علاقة بنقص الغذاء؟ هل هناك تصنيفات معينة بهذه الطريقة؟
لا لا يوجد لأنك لا تستطيع أن تحدد، أولًا نقص النظافة ليس فقط بنقص المياه، قد تتوفر المياه، لكن الفراش به قمل أو أي حشرات أخرى. كذلك نوعية التغذية التي يتحصل عليها مريض السل. عندما كنا نفتح ملف مرض الدرن في السجون، نضيف تغذية معينة للمريض حتى يستطيع أن يواجه المرض ويتحمل الدواء. الأدوية التي يأخذها مريض الدرن لا تُشفي خلال أسبوع، علاج الدرن يختلف حسب نوع الدرجة، هناك نوع من الدرن يعالج خلال ثمانية أشهر.
وهذا المدى الطويل لعلاج الدرن يُشكل تحديًا؟
بالضبط، لأن المريض يجب أن يتناول العقار يوميًّا، ويجب ألا يوقفه على الإطلاق. وإذا حدث وتوقف عن تناول العقار يحدث ما نسميه «مرض الدرن المقاوم»، أي أنه يوقف مفعول الأدوية السابقة.

أحد الزنازين في سجن كمبودي في العاصمة بنوم بنه العام 2016. تصوير: Thanapa Tuitiengsat/ اللجنة الدولية.

من خلال خبرتك في العمل الصحي وزيارات السجون، هل يمكن القول إن هناك بعض الأمراض أكثر شيوعًا من غيرها داخل السجن؟ أو أمراضًا مرتبطة بمناطق جغرافية معينة؟
طبعًا، كما قلت سابقًا يجب ألا تفرق ما بين خارج السجن وداخله. فعندما يوضع مرضى بـ «فيروس نقص المناعة المكتسبة» (HIV) أو مرضى الدرن، فإن السلطات في السجن لا تهتم غالبًا بمرضهم، الاهتمام يكون بسجل السجين الأمني أو السياسي. هؤلاء السجناء المرضى قد ينقلون أمراضهم لسجناء آخرين. عندما يدخل الشخص المريض إلى السجن، ويستعمل نفس إبرة الحقن [المحاقن] فإن الدم الملوث ينتقل من شخص لآخر، وبالتالي يسهل انتقال أمراض مثل «فيروس نقص المناعة المكتسبة» أو الدرن. للأسف لا توجد برامج توعية في العالم العربي. في أوروبا مثلا يعطون للمرضى من السجناء إبر حقن لا تُستعمل إلا مرة واحدة. إنهم بذلك يقللون نسبة انتقال المرض.
دعني أعود لسؤالك، هل هذه الأمراض لها علاقة بالتغذية والمياه؟ دائمًا نعم، ولكن تختلف من شخص لآخر ولا تعتمد فقط على هذين العاملين، تعتمد على نظافة الفرد، ونظافة السجن، هناك دائمًا شيء أساسي ينساه الأفراد، كيف تُنقل القمامة من السجن لخارجه؟ إذا تُركت داخل نطاق السجن أكثر من أربعة أيام، فلك أن تتخيل الرائحة. هناك سلطات تحرق القمامة داخل نطاق السجن. تخيل المشاكل. وبالتالي لا تستطيع أن تحسن وضع السجن بدون التغذية والمياه، ولكن توعية الفرد عن النظافة والصحة هي أهم هذه العوامل.
لو انتقلنا إلى العالم العربي، هل أدت النزاعات المسلحة أو أشكال العنف الأخرى التي سادت المنطقة في السنوات الأخيرة إلى رفع التحديات الخاصة بالوضع الصحي داخل السجون؟ 
التحديات كانت صعبة جدًّا، وما زالت. فهناك غياب للرعاية الصحية لعدم وجود كادر طبي مؤهل. لا يوجد اهتمام حقيقي بالسجون. تذكر أنه خلال الحروب أو النزاعات كل نظام الدولة ينهار، وبالتالي من الصعب عليك أن تشكو، حتى كمؤسسة إنسانية، الأولويات ليست للسجين، الأولويات للأمن وللحكومة وليس للسجناء.
السجون لا تُعد من أولويات الدول خلال ظروف النزاعات المسلحة وأحداث العنف الأخرى. وهناك انخفاض في الكوادر الطبية التي تتابع الحالة الصحية في السجون خلال النزاعات المسلحة. هناك نقطة أخرى خاصة بنوعية السجين. تحتاج المرأة السجينة إلى أن يوضع في الحسبان احتياجاتها كأطقم النظافة الشخصية.
أعطيك مثالًا من عملي في رواندا. كنا نعطي السجينات أغطية. كن يمزقنها يوميًّا. لم أفهم المنطق إلى أن اكتشفت أنهن يستعملنها للنظافة الشخصية في أوقات الدورة الشهرية. هذه كلها تحديات طبية، وهناك أيضًا تحديات غير طبية. في أوقات النزاعات المسلحة، تضع الدول أو الفصائل المتحاربة الخصوم في السجون. أحيانًا تُمنع الرعاية الصحية عن هؤلاء.
أثرت هنا موضوع السجينات، وهو موضوع مهم مع الأخذ في الاعتبار أن عدد السجينات قليل مقارنة بالسجناء الرجال، الذين يبلغ عددهم عشرة ملايين. ما الفروق التي لاحظتموها بين سجن الرجال وسجن النساء؟
نسبة النساء داخل السجون تبلغ نحو تسعة في المائة. بالنسبة للوضع الصحي، سجن النساء يختلف عن سجن الرجال اختلافًا كاملًا، طريقة التعامل تختلف، العيادة يجب أن تختلف، الأمراض تختلف. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن احتياجات المرأة الجسدية والنفسية تختلف عن احتياجات الرجل الجسدية والنفسية. عندما تُعتقل المرأة يجب أن تكون العيادة مخصصة للنساء، فحصها الطبي، الطاولة، يفضل أن تكون طبيبة، وإذا كان طبيبًا يجب أن يوجد شخص معه. الوضعية النفسية للنساء في السجن أكثر وطأة من الرجال، وذلك لنظرة المجتمع السلبية للمرأة السجينة.
عندما يُعتقل الرجل يقول البعض «السجن للرجال» أو ما شابه. لكن عندما تُعتقل المرأة فإن ذلك ربما يُعدُّ عارًا. هناك مجتمعات تلفظ المرأة السجينة. بعض النساء يُقتلن بزعم الحفاظ على الشرف، إذا دخلن السجن لسبب غير مقبول اجتماعيًّا.
هذا ينقلنا إلى سؤال عن الدور الذي تلعبه اللجنة الدولية في هذا السياق؟
اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي إحدى المؤسسات الوحيدة في العالم التي تزور السجون، نحن نزور حاليًّا السجون الموجودة في 112 بلدًا حول العالم. تختلف هذه السجون فيما بينها اختلافًا جمًّا. لكن اللجنة الدولية تتعامل مع الجميع، والنقطة الأولى في هذا السياق هي احترام الكرامة الإنسانية للسجين، بغض النظر عن خلفياته السياسية أو الاجتماعية أو العرقية أو القومية.
أنا عندما أذهب إلى السجن أتعامل مع شخص بوصفه «المريض السجين»، وليس «السجين المريض». هناك فارق بينهما. الفارق أن رجل الأمن يتحدث عن أن هذا سجين في فترة العقاب لكنه أصيب بالمرض. أما أنا فأقول إنه شخص مريض داخل السجن. وبالتالي الأولويات عندي طبية، وليست أمنية.
اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا