في حقول القتل… نص لـ محمد المخزنجي

بلا رتوش

في حقول القتل… نص لـ محمد المخزنجي

أطفال يصطفون للحصول على حصة من اللبن خلال النزاع الدامي في كمبوديا 1975. تصوير: Michèle Mercier/ أرشيف اللجنة الدولية

«إذا كنت تريد إنجاز برنامجك اليومي في «فنوم بنه»، فابدأ يومك مبكرًا».
وكان ذلك يعني أن نخرج إلى الشوارع قبل شروق الشمس، حتى ننهي كل أعمال النهار عند الظهيرة، قبل أن يبدأ هطول المطر من بعد الظهر وحتى آخر الليل.
كان الوقت مبكرًا حقًا حتى أن نور الصباح بدا أبيض رماديًا، ومع ذلك كان الناس يتدفقون إلى الشوارع الترابية الفسيحة المسيجة بالأشجار المدارية. ومن تدفق الناس وخضرة الأشجار بدت العاصمة الكمبودية ترتسم أمامي وكأنها مصحة مترامية للمعاقين من مبتوري الأطراف. منظر يتكرر في كل ركن وعند كل منعطف، لهؤلاء المتقافزين على ساق واحدة أو المتوكئين على عصي متواضعة بعد أن ركبت لهم أرجل صناعية. أو لمبتوري الأذرع الذين تخفق أكمامهم الخاوية مع الحركة. بعضهم حصل على أذرع صناعية تنتهي بخطاطيف معدنية مروعة البؤس لكنهم يلوحون بها لا شعوريًا في زهو.
من أين أتت كل هذه التعاسة؟ أسأل نفسي ونحن نمر بضفة الميكونغ الذي بدأت الشمس تسكب شفقها الوردي على صفحته الرقراقة الرحيبة، وفي الحدائق البسيطة المترامية أمام سلسلة القصور والمعابد الملكية المغبرة يتقافز ويتناثر مبتورو السيقان والأذرع.
لقد زرعت سنوات العمى والدم في كمبوديا ما يقارب أربعة عشر مليون لغم، بمعدل لغم ونصف لكل واحد من السكان البالغ عددهم تسعة وثلاثة أعشار مليون نسمة، حتى يحمي التخبط الأسود ساحة بطشه الدامي ويمارس سعاره بارتياح.
وبعد ما خمدت الحمى وأخذت العتمة في التراجع، ظلت الألغام في الحقول، والدروب، وباحات المدارس التي تحولت إلى مراكز توقيف وتعذيب، وحول أسوار المستشفيات التي أغلقت أبوابها كقلاع لنمور الافتراس البشري. وراحت الألغام تتصيد ضحاياها في زمن الخمود بحمية، إذ يقدر أن من بين كل أربعة من السكان يصاب واحد من جراء انفجار لغم، وغالبًا ما تكون الإصابة قاتلة نظرًا لتدني الخدمات الطبية في كمبوديا عمومًا وفي القرى خاصة، التي يعسر على أهلها مدقعي الفقر نقل مصابهم إلى مستشفى بمدينة قريبة، ليظل ينزف حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ومع ارتفاع الشمس لتضيء بياض أبراج المعابد، وتكشف عن ابتلال أديم الشوارع واغتسال الشجر، جذبتني حوانيت الحرير، وشدني بينها حانوت النساجة «برانغ سن» ذات الجمال الهادئ والابتسامة الغامضة، شأن من تنطوي صدورهم على أحزان قديمة. كان حانوتها يبدو كماسة تأتلق بالألوان من الأرض إلى السقف حيث تتراص لفات قطع الحرير، لامعة بهيجة، «لكل لون معنى وموعد» قالت برانغ، ففي التقاليد الكمبودية لشعب الخمير يقولون أن من يحترم تناسب الألوان والأيام يجد السعادة والنجاح، الأحمر ليوم الأحد، والأصفر الداكن للاثنين، والبنفسجي للثلاثاء، والأخضر صدأ النحاس ليوم الأربعاء، والأخضر الفاتح للخميس، والأزرق الغامق للجمعة، أما السبت فيناسبه الكحلي.
سألت ناسجة الحرير غامزًا: وأيام «بول بوت» أي الألوان كان يناسبها؟ قالت بمرارة: «كانت أيامه لا تحب الألوان» وأردفت تكرر: «أبدًا لا تحب الألوان.. لا تحب الألوان» وبدا أنها ستبكي فسألتها: «هل أخذوا أحدًا من عائلتك؟ قالت «خطيبي» وأخرجت من حقيبة يدها المركونة على أحد الأرفف صورة في غلاف بلاستيكي شفاف لشاب صغير يرتدي قميصًا مشجرًا بخليط من ألوان القرمزي والأصفر والأخضر.
«أيام لا تحب الألوان»!.. تعبير أخذ يترجع في خاطري بعد أن غادرت حانوت ناسجة الحرير برانغ سن، وأخذ التعبير يزداد رسوخًا في ذهني وأنا أسترجع حكايا تلك الأيام التي بدأت بذلك اليوم الرمادي من عام 1975، ففي السابع عشر من أبريل ذلك العام، سقطت «فنوم بنه» في يد الفصيل الأقوى من الشيوعيين الكمبوديين الذين أطلقت عليهم تسمية «الخمير الحمر»، بقيادة شخص غامض يحمل اسمًا حركيًا هو «بول بوت». كانوا يدعون الماوية، وبأن كمبوديا لا سبيل لرفعتها إلا بالعودة للجذور ونبذ كل ما هو غربي استعماري، والعودة إلى المجتمع الزراعي. وفي أقل من أربع سنوات حكم فيها الخمير الحمر كمبوديا، قضي على أكثر من مليون إنسان معظمهم من المتعلمين، وزرعت الأرض بأربعة عشر مليون لغم لحماية مواقعهم، وأظلمت كمبوديا وأقحلت برغم شعار العودة للزراعة، ومات الناس من الجوع والمجازر.
ومع ارتفاع شمس الصباح بما يكفي لإلقاء الضور على الأركان القصية من المدينة، دلفنا شارعًا طويلًا نحيلًا يشكل إحدى ضفتيه سور عال مسود اللون بتأثير نمو الطحالب الداكنة عليه. ثم انعطفنا نعبر بوابة في هذا السور. قلت بنبرة التساؤل: أهذه مدرسة؟ وجاءني الرد: «كانت مدرسة عليا اسمها «تول سفاي» أغلقت في سنوات الرعب وأصبحت تحمل اسم المعتقل الأمني رقم 21 أو معتقل «تول سلنغ». وأصابتني رعدة رغم رؤيتي لأشجار التين والمانغو ونخيل جوز الهند وهي تسيج المكان من الداخل وتفعم محيطه وباحته بخضرة الحدائق.
ومع الخطوات الأولى يسارًا كانت المشنقة تنتصب بين جذعي نخلتي جوز هند سامقتين في الفناء الغربي، الذي توجهت منه إلى فصول المدرسة التي تحولت لقاعات تعذيب لمئات الآلاف الذين كان يقضي منهم عام 1977، وحده، قرابة مائة قتيل في اليوم الواحد.
ومن المشنقة إلى روافع السلخ والعصر وأدوات الحرق والإغراق وصناديق التعذيب بلدغ الأفاعي والعقارب وأجهزة الصعق بالكهرباء. تكشف لي أنني أمام عالم قاحل من أدوات فظة، منحطة كالقسوة، لا دقة فيها ولا براعة ولا نظافة. مجرد قطع من حديد معتم الصدأ ومن خشب رميم. عصي حديدية عجراء وسخة، وقيود غليظة ركيكة، وصناديق لا مهارة في صنعها، وصواعق مشوشة الأسلاك. هي نفس القذارة والغلظة والركاكة التي رأيتها من قبل في زياراتي لمعتقلات أخرى، فالقسوة منحطة وأدواتها لا بد وأن تشبهها على ما يبدو، إذ تختزل الألوان في هذا العالم للون واحد قوامه القتامة: قتامة صدأ الحديد وقتامة القذارة وقتامة بقع الدم المتيبسة على أسرة الحديد وأدوات التعذيب والأرض والجدران. إضافة لقتامة خريطة كمبوديا المرسومة بالجماجم الحقيقية في جدارية هائلة، وقتامة الأرشيف الذي يضم آلاف الصور بالأبيض والأسود للضحايا الموتى.
خرجت مرورًا من «فنوم بنه» متجهًا لساحة أخرى للمرارة على بعد 30 كيلومترًا بحثًا عن «حقول القتل». وتحدرت سيارتنا الخائفة المبطئة على دروب حذرة بين حقول غامرة الخضرة مبثوثة بالألغام التي تتصيد يوميًا ضحاياها من المزارعين الفقراء وأطفالهم ودوابهم. ورحنا نعبر جسورًا خشبية متهالكة تئن عند مرورنا فوقها، وعبر نفق من ظلال الشجر الاستوائي الثري البديع وصلنا إلى بوابة حقول القتل في ناحية «شوينغ إك».
درت مقبوضًا واجف القلب حول «برج الجماجم» الذي شيدوه عند مدخل المكان. بناء من الخرسانة والحوائط الزجاجية هو أقرب إلى شكل المسلات فوق قباب المعابد البوذية المسماة «ستوبا». ووراء الزجاج تعلو الأرفف حتى ارتفاع عشرين مترًا، مكدسة بجماجم الضحايا التي عثروا عليها في بعض المقابر الجماعية بحقول القتل. ثمانية آلاف جمجمة.
ثمة نفق مفتوح في الطابق الأول للبرج، عبرته بين صفين من أكداس الجماجم التي بادلتني التحديق بمحاجر لا أعين فيها. أيها كانت جمجمة خطيب «برانغ سن»؟ عبر التساؤل خاطري الذاهل بلا إجابة، وأسرعت أهرب من موجة صراخ وأنين توحي بها أكداس الجماجم، فدخلت حقول القتل..
أينما توجهت في المكان الشاسع تجد آثار المقابر الجماعية، حفر عشوائية بقرت بسرعة وابتلعت أجساد الضحايا بسرعة ثم ردمت بلا اكتراث. أمشي على الجسور الناحلة بين بقايا الحفر المردومة التي غزتها بعض الأعشاب 129، مقبرة جماعية اكتشفت في المكان، تركت 43 مقبرة منها دون أن تمس وأخذت من الأخريات جماجم البرج الزجاجي الثمانية آلاف.
سرت بحذر، أدور وأعاود الدوران والتوقف، ذاهلًا بين حقول القتل، ولاحظت أن العشب النابت فيها كان رهيفًا كألحان الأسى. ثمة أطراف عظام تطل من التراب ومزق ثياب غبراء تتناثر في المكان. انحنيت أنبش بطرف قلم فاستخرجت مزقًا شتى من ملابس كان يرتديها الضحايا عند دفنهم. رحت أتأملها: كانت هذه لبشر انتقوها ببهجة أو أهديت إليهم من أمهات أو حبيبات أو زوجات. مزق من نفوس بشرية استباحتها نفوس أخرى لبشر توحشوا. ترى هل أعثر على مزقة بألوان قميص خطيب ناسجة الحرير هنا؟ واصلت النبش بطرف قلمي مستخرجًا المزيد من مزق الثياب، لم أستطع أن أميز فيها الألوان التي انمحت بفعل الدفن ومرور السنين، فلم يعد لها غير لون واحد هو لون التراب.
**
محمد المخزنجي قاص مصري بارز، وهو أحد كتاب مجلة الإنساني منذ انطلاقها.  نشر في المجلة عددًا من النصوص التي سنوالي نشرها تباعا. وهذا النص نُشر في العدد الحادي عشر من المجلة الذي صدر في تموز/ يوليو، آب/ أغسطس 2000.
اقرأ أيضا:
محمد المخزنجي، طريق القناصة
محمد المنسي قنديل، عربة الطحين
اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا