«يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي»…مدن القناة المصرية وتجربة مقاومة الحرب بالغناء

العدد 62 / ثقافة / مقالات

«يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي»…مدن القناة المصرية وتجربة مقاومة الحرب بالغناء

أثر الحرب على بورسعيد، 1956.

لا يمكن لمدينة تعيش ظرف الحرب أن تثابر في هذا الزمن العصيب دون اللجوء لعنصر فني داعم ومؤثر. هكذا عرف العالم كله الترابط الوثيق بين التحفيز بالموسيقى والغناء وحلقات الرقص الجماعي، وفترات الثورات الشعبية والحروب المضنية.
كانت مصر من البلاد التي ازدهرت فيها الطقوس والمظاهر الفنية بالتزامن مع فترات مقاومتها لاستعمار وراء استعمار. وفي انتفاضاتها الشعبية غير المكتملة وكذلك في حروبها التي طالت المدن، خاصة المدن الواقعة على ضفاف قناة السويس كخط مواجهة أول، تدور في عمق شوارعه معارك حربية وملاحم شعبية بطولية في مواجهة قصف ورصاص استهدف البيوت والمدنيين المقيمين بها [خلال حروب عامي 1956 و1967]. والعنصر الفني الأسهل في استدعائه أثناء أجواء التوتر الحربية، هو بالتأكيد كل فن «شعبي» نشأ بين حواضن المدينة ودرج سكانها على الاستماع إليه والمشاركة في صناعته واستقباله. الحضور الشعبي لفن متواتر بين سكان المدينة، يؤكد على روحهم التضامنية، ولهجتهم المحلية الخاصة واستعاراتها التي تحمل كودًا خاصًّا. وهذا الحضور يختلف اختلافًا جوهريًّا عن الحملات المنظمة لفن رسمي يقدمه فنانو العاصمة أو المؤسسات الرسمية كالإذاعات والتليفزيونات، وإن حملت الغرض نفسه من رفع للروح المعنوية وشد من أزر المقاومة الشعبية في زمن الحرب.
المدينة «بركان فوَّار»
بدأ انضمام مدن القناة لخطوط المقاومة الشعبية في مصر، إبان فترة ارتفاع حدة التوتر تجاه الاحتلال الإنجليزي للبلاد، ثم حريق العاصمة القاهرة الشهير في كانون ثاني/ يناير 1952 ثم أخيرًا ثورة تموز/ يوليو 1952. يقول المؤرخ البورسعيدي والشاعر الفنان محمد عبد القادر إن أغنية «حروف من نور وحروف من نار» هي أول الأغنيات التي ظهرت بعد حريق القاهرة على أنغام السمسمية [آلة موسيقية وترية شعبية، لها خمسة أوتار]. حملت هذه الأغنية نبرة وطنية حماسية، وجرت استعادتها في مراحل لاحقة في الخمسينيات، بعد تغيير بعض كلماتها.
وحروف من نور وحروف من نار
اكتب يا زمان مجد الأحرار
في بورسعيد بركان فوَّار
ما قدرش عليه حزب الأشرار
ومن المعروف أن صمود بورسعيد في معركة العام 1956، كان حدثًا اكتسب زخمًا عالميًّا، وغيَّر من إدراك أهل المدينة لكينونتهم، ومركزية وجودهم في عالم جديد يتشكل بعد جلاء نهائي للمستعمر. لذلك حازت السمسمية في ذلك الوقت تمثيلًا أكبر من كونها آلة موسيقية شعبية، فانضوت في مكونات هوية مصرية جامعة كأحد توجهات النظام البازغ وقتها. آنذاك، امتهن العازفون المهرة من أبناء بورسعيد العزف على السمسمية وأتقنوه. ويُعد إبراهيم خلف أبرز هؤلاء ويُوصف بأنه «المعلم الأول» لمن تلاه من عازفين، مثل كمال عضمة وبعده محمد الشناوي ومحمد عبد القادر وجيل الأوائل من عشاق السمسمية. أطلق البعض على الآلة «الندَّاهة»** التي تسبي قلوب العازفين حتى «يطير عقلهم» على حد تعبير الفنان محمد الباسوس، أحد عازفي السمسمية المعاصرين في بورسعيد.
«ثلاث دول ضد مدينة»
احتفت السمسمية، بنهاية الحرب في بورسعيد وتحرير المدينة في العام 1956، بأغنيات صارت علامات تاريخية مثل «في بورسعيد شباب ورجال» و«في بورسعيد الوطنية» و«مورهاوس ليه بس جيت»:
في بورسعيد شباب ورجال
الفخر ليكو مدى الأجيال
حاربنا جيش الاحتلال
سبع ليالي وصبحية… آه يا سلام
سدوا الكنال [القناة] ولا عادش مرور
قطعوا المياه وكمان النور
والعيشة صبحت زور في زور
سبع ليالي وصبحية
حيوا معايا البطل مهران
له في التاريخ قصة ونضال
قدم عيونه فدا الأوطان
وتعيش بلدنا في حرية
وكان الكاتب والملحن لهذه الأغاني، ولنحو ألف أغنية أخرى ودور، تنوعت بين الوطنية وأغاني المناسبات، هو أبو يوسف، الذي يشار له كعلم أساسي في النشأة الجديدة للسمسمية، مع الدمرداش وهو من مبدعي أغاني البحر الراسخة في بورسعيد. زادت أوتار السمسمية وتنوعت مقاماتها، وإن لم يتسق هذا التطوير مع ذائقة السمِّيعة الأصليين للآلة الذين يرون أنها شردت عن طابعها الخماسي وصوتها الحاد الذي يميزها عن باقي الآلات الوترية.
في بورسعيد الوطنية
شباب مقاومة شعبية
دافعوا بشهامة ورجولية
وحاربوا جيش الاحتلال
مبروك يا جمال
تلات دول على مدينة
اسمع وفسر يا أخينا
ياما جرالهم منِّينا [منَّا]
وولُّوا من أول مشوار
تكونت فرقة للسمسمية في الإذاعة المصرية في الستينيات تحت إشراف الفنان زكريا الحجاوي الذي اهتم بجمع التراث والفولكلور من جميع أنحاء مصر. وذاعت شهرة أغانيها في بورسعيد وما حولها. فيما احتفظت السويس بالطابع الخماسي والجنوبي أكثر بحكم إقامة «أهل الرانجو» بها. كما كوَّن الفنان سيد الملَّاح– وهو بورسعيدي الأصل- كذلك فرقة إذاعية تغني على أنغام السمسمية لعدة سنوات متصلة.
ليست مصادفة أن مدن القناة بتسمياتها الحديثة نسبيًّا (السويس، بورسعيد، الإسماعيلية) كانت منذ بدء عملية حفر قناة السويس على موعد مع تدفق لتيارات عالمية كوزموبوليتانية. وكان لتوافد العمال المصريين والعبيد من أنحاء أفريقيا (الذين استقروا في الإسماعيلية، قبل صدور قانون إلغاء الرق في العام 1877) أن أورث موسيقاها طابعًا خاصًّا، هجينًا يكتسب أصليته من روافده المتنوعة وليس من انغلاقه على ذاته، تمامًا ككل البلاد التي انفتحت ثقافتها بسبب نافذتها البحرية. فاحتفظت لتراث هذه المدن الثلاث بنكهة تميِّزه بين مكونات الفولكلور المصري الصعيدية والأفريقية النوبية والفلاحيّة والبدوية، تراث «الطنبورة» و«السمسمية» و«الرانجو حلَّق» هو الآخر في مساحته الخاصة، وكان سندًا لمقاومة شعوب مدن خط النار. ارتحلت الطنبورة (وهي أول أشكال آلة السمسمية التي تحوي خمسة أوتار) على أيدي الجنوبيين من أهالي صعيد مصر والنوبة والسودان، الذين انتقلوا عبر سواحل البحر الأحمر وراس سدر ثم السويس، ومنها إلى بورسعيد أثناء مراحل حفر قناة السويس وبعد افتتاحها. ويقال إن عبد الله كبربر العازف السوداني الأصل هو أشهر أوائل عازفيها. لذا ظلت تأثيرات السلم الخماسي الأفريقي حاضرة بقوة في أغنياتها وكذلك في بعض ألفاظ الأغاني. وعبر البحر الأحمر أيضًا التقطت الطنبورة ومؤدوها التأثيرات الخليجية الإيقاعية والهندية، إذ تذكرنا نشأة الآلة الوترية الشعبية بنشأة مثيلاتها في الهند وحِدة أوتارها الحديدية، وكذلك بشبيهات في حوض البحر المتوسط أقربها صوتيًّا «الماندولين». وعاشت الطنبورة عبر حلقات «الضمَّة»، التي كانت طقسًا شعبيًّا بورسعيديًّا خالصًا، يحدث دوريًّا في أحياء جنوب المدينة، تحديدًا حي المناخ ومقاهيه وأشهرها مقهى «السبعة سواقي أو السبع حصون» ومقهى «سوق العصر». يجتمع العازفون والمغنون والراقصون في حلقة، مدعوين من المقهى أو من صاحب فرح ليقضوا ليلة ساهرة، ويتحلق حولهم جمهورهم الذي يظل واقفًا إذا لم يكن من حفظة الأغاني. تلك قوانين الحلقة، الجلوس لمن يحفظ ويغني. اشتهرت وقتها أعمال تدور حول أغاني المناسبات والزفاف (الليلة ليلة جميلة مفرحة ومشجية) والحج (الله الله يا دين النبي)، وأغاني الغزل الذي كان فرعًا أصيلًا يحمل أيضًا لونًا شعريًّا متفردًا من ألفاظ بدوية وفصحى وعامية في خليط رائع (دور زارني المحبوب، ودور غصن الحبيب، ودور نوح الحمام).
المدينة تواجه التهجير
انفجرت الحالة الفنية وارتبطت بالمقاومة الشعبية عقب «نكسة 1967» [حرب حزيران/ يونيو 1967]، وتهجير أهل بورسعيد خارج مدينتهم، فكونوا فرقًا تنشد، مستخدمة السمسمية، أغاني المقاومة وانتصار العام 1956. كانت تلك الحالة كما يروي عنها الفنان محمد عبد القادر أشبه بحمَّى تجتاح أهل بورسعيد المهجَّرين حنينًا لمدينتهم ودفاعًا عن هويتهم المحلية في «تغريبة» يعيشونها، وكذلك تحميسًا واستبقاءً لشعلةِ المقاومة أثناء حرب الاستنزاف الطويلة. من أشهر تلك الفرق كانت «فرقة البورسعيدية» من عمال مصنع الغزل والنسيج في محافظة الشرقية التي أطلقت أغنية اشتهرت كثيرًا في هذا الوقت: «هانت يا بلاطوة هانت، والله الصبر أهو طيب، والعودة لاحت وبانت، وهنرجع والله قريب». وألف الشاعر البورسعيدي إبراهيم الباني عددًا من الأغاني عن التهجير منها «فجر الرجوع أهو لاح»، و«يا مسافر بورسعيد»، و«يا مداين الكنال».
يوم الهجرة دا كان مشؤوم
أروح طنطا والسلوم
يومها أنا عيني ما شافت نوم
وعقلي شت في كل مكان
ياما قريت وسمعت زمان
عن الناس الإسكندران
دول ناس بحاروة وناس جدعان
ياما قريت وسمعت زمان
بورسعيد إسكندرية وإسكندرية بورسعيد
هما ناسهم فهلوية وإحنا ناسنا برضو حديد
عندكو المنشية وف بلدكم راس التين
عندنا منشية وعندنا برضه الأمين..
يضاف إلى هؤلاء المنتشرين بالمحافظات ثلاث شخصيات رئيسة آثرت البقاء في مدنها: الفنان كامل عيد في بورسعيد، الفنان محمد أحمد غزالي [الشهير بـ كابتن غزالي]، مؤسس فرقة «ولاد الأرض» في السويس، وحافظ الصادق مؤسس «فرقة الصامدين» في الإسماعيلية. إذ ظل إنتاج هؤلاء من كلمات وألحان هو عماد المقاومة الفنية في تلك المحافظات الثلاث، وشاهدًا على بقاء أبناء المدينة متسلحين بالغناء في مواجهة الموت المحدق. كتب كامل عيد ولحَّن مئات الأعمال أشهرها «هجَّرنا المصنع والولاد»، وذاعت شهرة «ولاد الأرض» بسبب أغنيتها «يا بيوت السويس»، وهي من كلمات عبد الرحمن الأبنودي، و«غني يا سمسمية لرصاص البندقية» للريس غزالي:
غنِّي يا سمسمية لرصاص البندقية
 ولكل إيد قوية
حاضنة زنودها المدافع
غنِّي لكل عامل
في الريف وفي المعامل
بيأدي الواجب كامل
وادِّيله وردة هدية
غنِّي ودق الجلاجل
مطرح ضرب القنابل
راح تطرح السنابل
ويصبح خيرها ليَّ
وامتدت شهرة «ولاد الأرض» لإحياء حفلات وسط الجنود المصريين المرابطين على جبهة القتال، وكذلك في حفلات عامة للجمهور. وقد أرَّخ كامل عيد لهذا التاريخ والأعمال الفنية في كتابه الوثيقة «بورسعيد علم ونغم».
يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي
أستشهد تحتك وتعيشي أنتِ
هيلا هيلا هيلا يالا يا بلدية
شمر دراعاتك الدنيا أهيا
وإن باعوا العمر في سوق المنية
رفاقة هنروح السوق نجيبه
ونعود ونغني ع السمسمية
ليكي يا مدينتي يالي صمدتي
يا بيوت السويس
إذن فالتاريخ الطويل الذي شهد انتشار السمسمية والطنبورة [آلة وترية] في مدن القناة دشَّن هذا الفن من أوله وحتى آخره كفن شعبى خالص، ساهم فيه أبناء المدن الثلاث بروحهم المحلية وثقافتهم المنفتحة ورغبتهم- أولًا وأخيرًا- في الحياة رقصًا وغناءً واحتفاءً. وفي وقت الحرب كان الغناء رفيق أبناء المدينة في هجرتهم أو بقائهم، إذ رسخت هذه الأغنيات مدن بورسعيد وإسماعيلية والسويس في ذاكرة أبنائها وكذلك في ذاكرة الوطن، ترسم صورًا لأحياء المدينة وتحتفظ بأسمائها، وتروي عن البطولات الشعبية وملاحم التضامن الإنساني، وتحتفل بالصمود والمقاومة، لتكون بمثابة وثيقة فنية دائمة، نفخ فيها أهل المدينة من روحهم وحكاياتهم ونوادرهم وشهدت على حياتهم اليومية.
****
** النداهة أسطورة ريفية مصرية عن امرأة فاتنة تنادي الشخص ليلًا، ثم يُعثر عليه مقتولًا صباحًا.
نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 62 (خريف/ شتاء 2017) من مجلة «الإنساني».

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

اكتب تعليقا