البطيخ حلمًا في زمن حصار المدن…أمنيات الخلاص الصغيرة في الوعر المحاصر

العدد 62 / من الميدان

البطيخ حلمًا في زمن حصار المدن…أمنيات الخلاص الصغيرة في الوعر المحاصر

طفلة تأخذ قسطًا من الراحة على عربة خشبية تحمل بطيخًا في سوق الفردوس بحلب، 2015. رويترز

أدى النزاع المسلح الممتد في سورية إلى أن يُضرب الحصار على أكثر من نصف مليون شخص في البلاد. من بين هؤلاء المحاصرين سكان حي الوعر في مدينة حمص، هنا لمحة سريعة عن الطريقة التي يعيش بها سكان الحي تحت وطأة نفاد الغذاء.
«جائعة ومتعبة جدًّا…» صمت يطول بعد هذه الكلمات. لم تقو حنان، ابنة التسعة عشْر عامًا، على تقديم مزيد من الشرح. حدثتنا حنان، والخوف يملأها، عبر الهاتف من داخل حي الوعر في مدينة حمص السورية. همست في أذني عبر الهاتف «بتعرفي شو مشتهية؟»، ظننتها تريد السفر أو الخلاص أيًّا كان شكله، إلا أنها فاجأتني بشيء لم أكن أتوقعه: «مشتهية آكل بطِّيخ…»! يا إلهي هل صغُرت أحلامنا إلى هذه الدرجة؟
يقع حي الوعر غربي حمص، ويعرف رسميًّا باسم «حمص الجديدة»، وينقسم إلى قسمين: الوعر الجديد، ويتألف من ثماني جزرٍ، تحوي أبراجًا سكنية، يتراوح عدد طوابقها ما بين 9 إلى 13 طابقًا، والوعر القديم، وهو، كما يشي الاسم، المنطقة الأصلية في الحي. استقطب الحي الحديث والخدمات المتوفرة وسوق العمل الجديد العديد من أبناء حمص قبل اندلاع الأزمة السورية. لكن مع اشتعال الأوضاع في سورية نهاية العام 2011، شهد الحي حركة نزوح منه وإليه، فقد هجره بعض سكانه، فيما وفدت إليه عائلات أخرى هربًا من مناطق الاشتباكات في أحياء حمص القديمة بشكل خاص. يقطن الحي حاليًا نحو خمسين ألف نسمة، نصفهم تقريبًا ليسوا من سكان الحي الأصليين. يسكن هؤلاء إما في مراكز إيواء تشرف عليها منظمات إنسانية، أو في منازل هجرها أصحابها.
تاريخ قصير لحي محاصر
من بداية إغلاق الحي، يعامل سكان الوعر، رجالًا ونساءً وطلابًا، معاملة استثنائية، فيسمح لهم بالدخول والخروج ضمن شروط معينة تتيح لهم إدخال كميات محدودة من المواد الغذائية. ويرصد الصحافي الميداني في حمص حيدر رزوق، أهم محطات الحي منذ أن ضربه الحصار. يقول رزوق: «دخل الوعر على خط الأحياء التي تشهد توترًا أمنيًّا بعد أشهر من بداية الأحداث في سورية. اقتصر الأمر في البداية على المناوشات ولم يتطور إلى مرحلة الصدام المباشر أو الاشتباك المسلح». لكن جاءت نهاية العام 2013، لتشهد تحولًا كبيرًا في حياة الحي. «فقد تسببت حوادث الاعتداء المتكرر على المنشآت الحكومية والأمنية، والاعتداء على المدنيين بسحب جميع العناصر الأمنية من الحي». بعد فترة التوتر هذه، جرى الوصول إلى هدنة «لكن الوضع الأمني تأزم من جديد ما أدى لإغلاق الحي بالكامل». وفي ظل هذا الحصار، يشرف مجلس محافظة حمص على إدخال المساعدات الإنسانية والغذائية إلى الحي.
تمكنَّا من الحديث مع أم محمد، 56 عامًا، التي تعيش مع أبناء خمسة وعائلاتهم في بيت واحد. بدا صوتها وقد أضناه التعب. هي ليست من سكان الحي، فقد نزحت إليه بعد انهيار الوضع الأمني في أحياء حمص الأخرى. «لو بإمكاني أن أمحو هذه السنوات الخمس من عمري لمحوتهن. تعبت والله تعبت. أعاني من [مرض] السكري. ومنذ بضعة أيام سمعت أن الأدوية التي يعطونا إياها منتهية الصلاحية. وزني نقص عشرين كيلو في عدة أشهر. حلمي أطلع وأذهب لطبيب يفحصني، ويعطيني دواءً يريحني. تخيلي أن حلمي هو رؤية طبيب»، هكذا تحدثت أم محمد بلكنة حمصية لا تخطئها أذن. تحدثت متذكرة أقسى اللحظات التي مرَّت عليها وعلى أحفادها الأحد عشر طيلة الخمس سنوات المنصرمة.
لا وقود ولا غاز للطبخ أو التدفئة في الوعر وحتى الخشب الذي يُحتطب من الغابة المجاورة لا يصل لجميع العائلات. أما الطعام فمعاناة أخرى لا تميز بين رضيع وبالغ. تقول أم محمد: «في الصيف نشتري ملابس وأحذية مستعملة إن توفرت. نستخدمها ثم نحرقها لنتدفأ بها في الشتاء. وعندما توقفت المساعدات والخبز عن الوصول إلينا، كنت أطحن الحبوب، وأجهز منها خبزًا وغذاءً لنا. أتقاسم مع أقاربي الكميات القليلة جدًّا من الخضار التي يسمح لنا بإدخالها».
يأمل المدنيون في إنهاء هذا الوضع في أقرب وقت، لكن صوت السلاح يعلو على صراخ أطفالهم وجراح مرضاهم. يعاني الأهالي من غياب الرعاية الصحية. فقد توقفت ثلاثة مراكز صحية من أصل أربعة عن العمل نهائيًّا. لم يتبق سوى جمعية «البرِّ الخيرية» التي يشرف على إدارتها متطوعون من الهلال الأحمر العربي السوري، وحتى هذه الجمعية لا توفر جميع الخدمات والأدوية التي يحتاجها السكان، لأنه لا يُسمح بدخول إلا المواد الإسعافية الأولية والدوائية الملحَّة. تتراوح نسبة الدمار في الوعر بين خمسة إلى عشرة بالمائة فقط تتركز على أطراف الحي (في الجزيرة السابعة). الوعر هو الحي الوحيد الذي لم يشهد معارك داخلية، ومع ذلك فإن نسبة الدمار النفسي والصحي والغذائي الذي لحق بسكانه لا يختلف عن غيره من الأحياء الحمصية التي شهدت معارك واشتباكات أو حتى حوادث تفجير. وفي ظل هذا الحصار الممتد، لا عجب أن تصغر أحلام السكان إلى أكل البطيخ أو زيارة طبيب.
نُشر هذا الموضوع في العدد رقم 62 (خريف/ شتاء 2017) من مجلة «الإنساني».

 

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا